صحيفة الوطن تجري تحقيق صحفي حول تسريب الوثائق والمستندات وانتشار الشائعات،،

 

حُمّى متفشَّية في جسد الإعلام الإلكتروني، ومنصات التواصل الاجتماعي،،

ما مدى تأثيراتها على اشتعال المشهدين الإعلامي والسياسي؟؟..

حق النشر، بين مطرقة السبق الصحفي وسندان تجاوز القوانين..

الأمين العام السابق للمجلس القومي للصحافة والمطبوعات: هنالك مستندات مسرّبة، قادت السلطات المختصة إلى توقيف مخالفين..

خبراء إعلاميون: الفوضى وغياب الحاكمية القانونية والإدارية وراء تفشَّي ظاهرة التسريبات..

خبيرة قانونية: الكذب الضار جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي وقانون المعلوماتية وقانون الصحافة والمطبوعات..

مطالبات بسن عقوبات *رادعة لمحاصرة الجرائم المتعلقة بتضليل الرأي العام ونشر الأكاذيب وسط المجتمع..

مع بذوغ فجر التغيير والإطاحة بنظام الإنقاذ بقيادة الرئيس عمر البشير، بدأت تتشكل ملامح الحرية والانعتاق في كل جوانب الحياة السودانية، ونال المشهد الإعلامي بصفة عامة وقطاع الصحافة والنشر على وجه الخصوص، قصب السبق في التمتع بهواء الحريات الطلق، خاصة مع توسع منصات التواصل الاجتماعي واتساع دائرة الإعلام الإلكتروني، بانتشار الهواتف النقَّالة بين أيدي المواطنين بمختلف فئاتهم وأعمارهم، وهو أمر جعل من كل صاحب هاتف سيَّار عنصراً فاعلاً ومشتغلاً في مجال النشر، أو ما اصطلح على تسميته ب( المواطن الصحفي).
لقد أدى هذا الوضع إلى انفلات العقد، حيث أطلت فوضى الممارسة الصحفية برأسها، بعيداً عن النظم والمعايير المهنية المتعارف عليها في بلاط الصحافة والإعلام، فبرز دور واضح لناشطين خلقوا لهم وجوداً وحفروا اسماءهم بين ثنايا الأسافير، فحظيوا بمتابعين ومريدين، وطبقت شهرتهم الأفاق.
وفي ظل الفوضى وانعدام المعايير المهنية، أصبح المشهد خصباً لغرس الكثير من المفاهيم غير الأخلاقية، كفبركة الأخبار ونشر الإشاعات وبث الأكاذيب والشائعات وتسريب الوثائق والمستندات وتنظيم حملات ممنهجة لتضليل الرأي العام وتمرير أجندات وتحقيق غايات غير نبيلة ومتنافية مع القيم والمباديء التي عرف بها المجتمع السوداني.
وترتب على هذه السيولة الإعلامية، أضرار نفسية ومادية بالغة لحقت بأشخاص ومؤسسات، أصبحوا بين ليلة وضحى متهمين في نظر المجتمع، ومنبوذين من قِبَل كثير من الناس خاصة أؤلئك الذين يركبون الموجة دون أن يُعملوا أفكارهم ويتحققوا من صحة الكثير مما يتم تداوله على المنصات والأسافير.
ولعل ما يؤسف له أن عدداً مهولاً من منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية لا تتحقق من صحة المعلومات التي تقوم بنشرها، بل بعضها يربط المعلومة المغلوطة بوسيلة إعلام أخرى وتشير الأخيرة إلى وسيلة إعلام ثالثة وهكذا دوليك، فيتوزع دم المعلومة بين الوسائل المختلفة.
ويبدو الأمر مقلقاً جداً في بلاط صاحبة الجلالة خاصة عند قيام بعض الصحفيين بنقل معلومات لا يعرفون إن كانت صحيحة أو كاذبة، مما يوقع الصحيفة وناشرها في المحظور.
ويحذر خبراء في مجال الإعلام والاتصالات من ظاهرة فبركة الأخبار والترويج لمصداقيتها، بإعادة تدويرها لإضفاء مصداقية مفتعلة، وهو أمر ربما يهدد مسيرة الإعلام التقليدي الذي عرف بمهنيته العالية ومصداقيته في تناول الأخبار والمعلومات.
واكتنف المشهد الإعلامي في السودان العديد من مظاهر الفبركة ونشر الأخبار الكاذبة والمضللة وتسريب الوثائق والمستندات ونشر الشائعات، خاصة الإعلان عن وفيات أعلام من المبدعين والسياسيين، الأمر الذي يثير البلبلة وسط المجتمع.
ولعل أشهر قضايا التسريب تعود إلى الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة التي تعرضت في مارس وأبريل الماضي إلى حملة شرسة ومنظمة من قبل ناشطين على منصات التواصل الاجتماعي عملوا على نشر تسريب وثائق ومستندات خاصة بالشركة.
وشهد شهر أغسطس الجاري قضية تسريب شيكات خاصة بشركات التعدين قد أثارات غباراً كثيفاً حول الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة ومديرها العام مبارك أردول، انتهت بتدخل رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك الذي استدعى أردول واستقصى منه تفاصيل القضية التي شغلت الرأي العام ومازالت تأثيرتها مستمرة.
ظاهرة قديمة
ويقول أستاذ الإعلام عميد كلية العلوم الإسلامية والعربية بجامعة وادي النيل دكتور طلحة الحاج عبد الله، إن ظاهرة نشر الأكاذيب والإشاعات موجودة منذ القدم، وكانت انتشارها محصوراً في نطاق ضيق لا يتجاوز حدود المجتمع الذي تقع فيه الظاهرة، وغالباً ما تكون وسائل الانتشار هي الملمات والجلسات الأسرية والاجتماعية وربما ينتهي تأثيرها بانتهاء الجلسة المعنية، فلا تجد حظها من الانتشار الواسع.
تأثير تقنية الاتصالات الحديثة
التطور التكنلوجي وانتشار تقنيات الاتصالات الحديثة ساعد على سرعة انتشار ظاهرة الأكاذيب ونشر الإشاعات، هكذا يجيب دكتور طلحة الحاج على سؤالنا بشأن تأثير تقنيات الاتصال على سرعة انتشار الظاهرة ويضيف أن ظاهرة الأكاذيب والإشاعات وجدت بهذه التقنيات الحديثة تربة خصبة ساعدتها على سرعة الإنتاج وبث الرسائل على نطاق واسع، خاصة بعد ظهور ما يعرف بالمواطن الصحفي الذي يقوم بجمع ونشر المعلومات دون النظر إلى صحتها ومصدرها إذا كان موثوقا أو غير موثوق.
ضعف قوانين المعلوماتية
ويرجع دكتور طلحة الحاج استمرار ظاهرة نشر الأكاذيب والإشاعات إلى ضعف قوانين المعلوماتية، وضعف الآليات التي يمكن أن تتابع هذه الإشاعات مجهولة المصدر، مطالباً بضرورة أن تجد الظاهرة حظاً وافراً من البحث والدراسة لتفادي أثارها السلبية على المجتمع.
غياب الحاكمية القانونية والإدارية
ويقطع الخبير الإعلامي الصحفي والإذاعي والأمين العام السابق للمجلس القومي للصحافة والمطبوعات، دكتور عبد العظيم عوض، بحداثة ظاهرة نشر الأكاذيب وتسريب المعلومات وتضليل الرأي العام، ويقول إن هذه الظواهر دخيلة على المشهد الصحفي والإعلامي في السودان، وانتشرت بشكل واضح في ظل الفوضى التي ضربت البلاد وتراجع قبضة السلطة بفضل مناخ الحريات الذي أتاحته ثروة ديسمبر المجيدة، وانحياز الكثير من الجمهور إلى مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني كمصرد للأخبار.
قلق من مفهوم البعض للحريات
ويبدي دكتور عبد العظيم عوض قلقه من اعتقاد الكثيرين أن الحرية تعني الفوضى والتطاول على حرية الآخرين، دون رقيب أو مساءلة قانونية، مؤكداً أن وجود الحاكمية القانونية والإدارية وتفعيلها، كقانون النشر والمطبوعات يمكن أن تحد من مثل هذه الممارسات، إذ يتردد الشخص ألف مرة قبل أن يقوم بنشر وثيقة أو مستند، أو يقوم بإطلاق شائعة تمس شخصاً أو مؤسسة ما.
اعتراف
ويعترف الأمين العام السابق للمجلس القومي للصحافة والمطبوعات بوجود ظواهر إيجابية في قضايا النشر، حيث أدت بعض المستندات التي تم نشرها في الصحف إلى لفت انتباه السلطات المختصة إلى وجود خلل في الجهة المعنية، لتتحرك السلطات بإجراءاتها القانونية لمعالجة هذا الخلل، وهو الدور المناط بالصحافة المهنية.
الكذب الضار
وتتناول دكتورة زحل محمد الأمين أستاذ القانون الدولي بجامعة النيلين الموقف القانوني لاستناد الناشر سواءاً كان صحفياً أو ناشطاً على منصات التواصل الاجتماعي، على أدلة وأسانيد غير قانونية في توجيه الاتهام للغير، وتصف ذلك بالجريمة التي يعاقب عليها القانون الجنائي وقانون المعلوماتية وقانون الصحافة والمطبوعات، ويسمى قانونياً ب “الكذب الضار” ويوجب المعاقبة، خاصة إذا ترتب عليه إضرار بالآخرين أو إشانة سمعتهم أو حدوث وقائع خاطئة تنبني عليها جرائم، وفي المقابل تقول دكتورة زحل إنه على الشخص المُدَّعى عليه أن يرفع دعوى جنائية ويثبت تضرره من النشر والكذب الضار، مبينة أن العقوبات المترتبة على هذا الفعل تتراوح ما بين السجن والغرامة، وقد يكون الحكم بالتعويض على المدعى عليه، نتيجة تضرره من الكذب الضار.
حق نشر الوثائق والمستندات
تقول دكتورة زحل إن القانون الجنائي يعاقب الناشر سواءاً كان صحفياً أو ناشطاً على منصات التواصل الاجتماعي إذا قام بنشر وثيقة أو مستند غير صحيح، وحتى إذا كان المستند صحيحاً فإن القانون ينظر في أحقية الصحفي أو الناشط على منصات التواصل الاجتماعي في النشر من عدمه، فإذا كانت الوثيقة صحيحة ولكن لا يحق للصحفي أو الناشط نشرها، فإن ذلك يعرضه للمساءلة القانونية.
محاربة النشر الكاذب
وتتطرق دكتور زحل محمد الأمين أستاذ القانون الدولي بجامعة النيلين إلى السبل الكفيلة لمحاربة ظاهرة النشر الكاذب، وتقول إن محاربة مثل هذه الظواهر تتعلق بالسلوك الاجتماعي وتحتاج إلى التنويـر والتوعية من قبل مؤسسات الدولة المعنية، سواءاً المدارس أوالجامعات أو حتى منظمات المجتمع المدني، حيث تستطيع هذه المؤسسات التعامل بمهنية لتتصدى لمثل هذه الظواهر السلبية ومحاصرتها والتنبيه إلى خطورتها وضررها في إشانة السمعة وتفكيك الأسر، وقالت إن العقوبات الرادعة من شأنها أن تحاصر مثل هذه الجرائم المتعلقة بتضليل الرأي العام ونشر الأكاذيب وسط المجتمع.