في سياق طويل وممتد لا يمكن أن تكون الاستراتيجية لحظة أو ومضة فهي رؤية لمستقبل في المدى البعيد أو المتوسط، لكنها هنا في السودان ومنذ اندلاع ثورة ديسمبر حانت أربع مرات تم خلالها الامساك بها مرة واحدة.
كانت المرة الأولى عندما أعلن تجمع المهنيين عن تسيير موكبه الأول في ديسمبر ٢٠١٨ إلى مقر المجلس الوطني لتسليم مذكرة يطالب فيها بزيادة الأجور وتزامن ذلك مع اندلاع الاحتجاجات في عطبرة بصورة واسعة وعزم اكيد. فبدت اللحظة التاريخية مؤهلة لتكون لحظة استراتيجية وقد افلح تجمع المهنيين وقتها في الإمساك بها، وظل ممسكا بها حتى الإطاحة برأس النظام وحل حكومته وتنظيمه السياسي، ثم أفلتت. ليحدث التراجع وينتهي المشهد بفض الاعتصام.
ثم حانت اللحظة التاريخية مرة أخرى عقب موكب الثلاثين من يونيو ٢٠١٩ الشهير حينما تراجع رئيس المجلس العسكري الانتقالي عن مواقفه التي أعلن عنها عقب مجزرة فض الاعتصام التي تجسدت في عزمه تشكيل حكومة من طرف واحد والانفراد بالحكم متهما الثورة بأنها قد (فقدت سلميتها) وما بين القوسين كان مكر فطير. ونكران للشمس في رابعة النهار. فكان موكب الثلاثين من يونيو وقد ألقت الجماهير مافي يمينها ليلقف ما صنع المجلس العسكري من كيد نسجت خيوطه دولا إقليمية وبعض فلول النظام البائد وبعض الإدارات الأهلية.
ثم حانت اللحظة التاريخية التي لم يستلمها أحد وقد نبه لها الراحل علي محمود حسنين حينما نصح قادة الأحزاب وتجمع المهنيين بعدم التفاوض مع المجلس العسكري فلم يستجيبوا النصح حتى ضحى الغد.
ثم حانت اللحظة التاريخية للمرة الثالثة عندما بدأت عملية التفاوض برعاية الوساطة الإفريقية حينما طالب العسكر بالحصانة القانونية لشخوصهم وممتلكاتهم. ولم يسألهم أحد عن المقابل.
ثم حانت اللحظة التاريخية للمرة الرابعة عندما صدرت الوثيقة الدستورية وهي تحمل بين طياتها نسبة ٦٦ بالمئة من مقاعد المجلس التشريعي لقوى الحرية والتغيير وكامل مقاعد مجلس الوزراء ما عدا مقعدين. ونصف أعضاء مجلس السيادة، وكفلت سلطة التشريع للمجلسين مجتمعين بالأغلبية العادية في اجتماع مشترك فإذا صدر التشريع ولم يعتمده مجلس السيادة خلال خمسة عشر يوما اعتبر نافذا. ولعمري هذه أدوات لو توافرت لأي حكومة في أي مكان أو زمان لغيرت بها المشهد السياسي والواقع الحياتي باكمله. ولكن حكومة حمدوك كانت تنتظر وتمتنع عن الفعل إلى حين توقيع اتفاقية سلام جوبا، وأنا أترك ا
للقاريء وصف ما أحدثته اتفاقية سلام جوبا من ربكة وعدم منهجية في الأداء الحكومي، وما أفرزته على الصعيد الاجتماعي من احتقانات وإحن. وما فعلته بالوثيقة الدستورية من خروقات وبدع. “ولك الله يا وطني”.
الآن وبالنظر الى نذر المواجهة القديمة المؤجلة ما بين معسكر الثورة الذي يناضل لاجل الحرية والحكم المدني وبناء مشروع الدولة الحلم، وما بين معسكر “الأنا” الذي لا يفهم معنى الدولة إلا إذا عاش فيها ظالما متجبرا قاهرا لغيره من عباد الله، متميزا عن بقية خلقه، حتى لو تحولت إلى كومة من رماد أستطيع التأكيد جازما أن لحظة تاريخية قد أطلت فيجب الإمساك بها عيانا بيانا شاء من شاء، وأبي من أبى، وعلى القوى الثورية احزابا ومنظمات ولجان مقاومة إن تتذكر أن العمل الجبهوي يتم الاصطفاف فيه حول “أهداف” وليست أفكار أو ايدلوجيات أو حتى برامج، فعليها وضع الأهداف المشتركة في خانة ما هو استراتيجي ونهائي ولا محيص عنه.
أما التجمع القانوني لحماية الثورة ودعم التحول الديمقراطي فعليه يقع عبء خاص وكبير عطفا على طبيعة الأزمة التي تمر بها البلاد، وطبيعة المواجهة وأبعادها، ولكل معركة فرسانها.
وختاما اقول: إن المشهد السياسي القادم مختلف ومصيري، تنتظرنا فيه مواجهة للحقائق من غير مواربة، وتسمية للأشياء بمسمياتها كما هي، ومصالحة مع الذات حد الاعتذار، وإدراك للواقع كما هو على الأرض، وإعمال للعقل وللحكمة، ولكن دون تفريط في أهداف الثورة التي هي الحرية كاملة لا انتقاص فيها، والسلام شامل لاظلم فيه ولا ظلمات، والعدالة تامة غير منقوصة، وكل ذلك لن يتأتى دون الرجوع إلى احترام ما تعاهدنا عليه في الوثيقة الدستورية واحترام بنودها، والكف عن العبث بها،والإسراع بإكمال ما نصت عليه من مطلوبات واستحقاقات ومؤسسات ومجالس ،ومفوضيات وإصلاحات وخطوات سياسية وقانونية وامنية وصولا إلى خاتمة المشهد الانتقالي بإجراء الانتخابات. وإلا فستكون عواقب اللعب بمصير هذا الشعب وخيمة.