التغيير- الفاضل إبراهيم
نقلا عن صحيفة التغيير
بنك السودان المركزي طرح قرار تحرير سعر الصرف في السودان تساؤلات عديدة حول ما إذا كان طوقاً لنجاة الاقتصاد، أم أنه طريق للغرق في المزيد من الأزمات؟! وتباينت الآراء، فيما تمسك تجار السوق السوداء بالاستمرار في عملهم.
قبل أن يفيق المواطن السوداني من صدمة تبعات سياسة رفع الدعم عن المحروقات والتحرير الجزئي للكهرباء وما صاحبها من تأثيرات مباشرة على قوت المواطنين، أعلنت الحكومة عن تعويم العملة «توحيد سعر الصرف للعملات الأجنبية»، واستثنى القرار سعر الدولار الجمركي ضمن حزمة الإصلاحات التي بدأتها الحكومة الإنتقالية العام 2020م، وسط توقعات بتأثير الخطوة على أسعار السلع والخدمات.
استمرار الإصلاحات
ورفض المستشار الاقتصادي السابق لرئيس الوزراء د. آدم حريكة الحديث مباشرة حول قرار تعويم الجنيه لكنه قال لـ«التغيير»، إن الحكومة مستمرة في الإصلاحات الاقتصادية لجهة أنها بدأت مسيرة الإصلاحات قبل فترة وستستمر فيها حتى لو كان البنك وصندوق النقد الدوليين خارج هذه المعادلة.
وأضاف: «نعلم أن هذه السياسات تمثل جراحة قاسية ولكن لابد من المضي قدماً في تنفيذها».
ولفت إلى أن تراجع النظام البائد عن حزمة الإصلاح التي أعلن عنها «رفع الدعم» وتم ببطء، لم يكن بسبب ضغط الشارع في 2013م بل لأن المؤسسات الدولية لم تكن راغبة في التعاون مع نظام الإنقاذ السابق.
وتحدى حريكة أي جهة أخرى في الخروج من المأزق الاقتصادي الحالي دون تطبيق حزمة إصلاحات وإزالة التشوهات الحالية في الاقتصاد.
شروط البنك الدولي
وأوضح حريكة انهم اتفقوا مع البنك الدولي على «4» شروط فقط يستفيد بموجبها السودان من مساهمات الأعضاء في البنك الدولي بضخ ما يعادل «4» مليارات دولار للسودان بعد إعفاء الديون وفق مبادرة «هيبك»، وهي إصلاح الدعم بالتركيز على رفع الدعم عن المحروقات، ونوه إلى أن هذا الأمر تم مسبقاً حتى قبل الاتفاق مع البنك الدولي، بجانب إصلاح سعر الصرف حيث شرع بنك السودان في عملية الإصلاح بقبول تحويلات المغتربين وفق الأسعار بالسوق الموازي.
وأشار إلى أن جزءاً من تحويلات المغتربين كانت تستخدم في غسل الأموال، بالإضافة لشرط آخر يتعلق بالشفافية المالية، ولذلك شرعت المالية في نشر الموازنة العامة على صفحتها الرسمية، فضلاً عن تقديم دعم للأسر ذات الدخل المنخفض بدعم من البنك الدولي 800 مليون دولار.
وأكد أن الحكومة كانت ستستمر في سياسة الإصلاح الاقتصادي «رفع الدعم» حتى لو لم يكون هنالك اتفاق مع البنك وصندوق النقد الدوليين.
توحيد وليس تعويم
وسمّى استاذ الاقتصاد بجامعة الزعيم الأزهري د. على الله عبد الرازق قرار بنك السودان بأنه «توحيد» وليس تعويم كما ظل يردد البعض.
وقال لـ«التغيير» إن التعويم يعني ببساطة أن يحدد السوق سعر الصرف للعملة الأجنبية بدلاً عن البنك المركزي الذي يحدد الأسعار حالياً، كما أن الدولار الجمركي لازال محدداً بسعر رسمي.
وأكد أن القرار لن يسهم في جذب مدخرات المغتربين لفقدان الثقة بين المغتربين والمصارف، بجانب البيروقراطية داخل الجهاز المصرفي.
واعتبر أن جذب الاستثمارات لن يتم عبر السياسة الخاصة بسعر النقد الأجنبي فقط، بل بمحفزات أخرى وتهيئة البيئة الاستثمارية الداخلية، إضافة إلى قوانين جيدة للاستثمار.
وشدّد على أن السوق الأسود سيستمر وسترتفع الاسعار بطريقة جنونية لأن البنك المركزي لا يمتلك احتياطياً نقدياً كافياً.
جراحة قاسية
ووصف القيادي بقوى الحرية والتغيير عادل خلف الله، القرار بأنه «جراحة بدون بنج» وستدخل الكثيرين دائرة الفقر.
وقال إن معاناة المواطنين ستزداد بصورة لا تحتمل.
ولفت إلى أن توحيد سعر الصرف لا يمر بطريق واحد فقط، وذكر أن قوى الحرية والتغيير قدمت برنامجاً به حزمة إجراءات كثيرة لكن لم يتم الأخذ بها.
وقال: «المطلوب اجراءات بسيطة متعلقة بسيطرة الدولة على قطاع الذهب تحديداً والقفز بالانتاج لـ300 طن تكفي عائداتها لتغطية العجز في فجوة الصادر».
وتوقع خلف الله أن يقفز سعر الدولار إلى أرقام فلكية خلال الأيام المقبلة.
أضرار وفوائد
وأكد الخبير المصرفي د. لؤي عبد المنعم، أن سياسة التعويم تمثل أحد بنود روشته صندوق النقد الدولي والتي تتضمن أيضا رفع الدعم وتخفيض النفقات الحكومية وإجراء إصلاحات هيكلية تستهدف تحسين الإنتاج والتصنيع.
لكنه قال: «ليس شرطاً تنفيذ الروشتة دفعة واحدة بمعنى أنه يمكن إعادة هيكلة الدعم الحكومي للسلع الأساسية من عيني إلى نقدي بطريقة أفضل من الإلغاء التدريجي للدعم والذي سيتسبب في الإضرار بالشرائح الفقيرة وحتى المتوسطة الدخل في ظل الانخفاض المتواصل في قيمة العملة الوطنية».
وأضاف: «لذلك الاستمرار في التعويم هو الخيار الأمثل لتقليل الفارق بين السعرين الرسمي والموازي لتحقيق قدر من الاستقرار وتحسين وضع الميزان التجاري وبالتالي تحقيق نمو اقتصادي بناء على خطط وبرامج إستراتيجية».
ورأى د. لؤي أن التعويم المدار لو أحسن توظيفه سيقود تدريجياً للتعويم الكامل والذي لا يتطلب احتياطيات نقدية كبيرة، ولكن يشترط فيه الحد من الاستيراد الغير ضروري والمضاربة على الدولار خارج الحاجة للاستيراد.
واعتبر أن السودان تأخر كثيراً في الانتقال من سعر الصرف الثابت إلى المدار، حيث تم تغيير نظام سعر الصرف في نوفمبر 2017م عوضاً عن 2011م عقب الانفصال بعد استنزاف الاحتياطيات من العملات الأجنبية، «وقد سبقتنا عدة دول استفادت من سياسة التعويم».
تجارب ناجحة
وقال د. لؤي: «النجاح دائما تصاحبه صعوبات مثال على ذلك في بداية التعويم خسرت كازخستان 6% من احتياطياتها النقدية بالعملة الأجنبية لكن بعد مرور عام ارتفعت الاحتياطيات بنسبة 13%، أيضاً البرازيل اتجهت نحو التعويم في العام 1999م ومرت بخمس سنوات عجاف عانى منها الفقراء وارتفعت أسعار السلع المستوردة وزاد التضخم لكن في العام 2004م استقر سعر الصرف».
وأضاف: «ومن التجارب الحديثة في 2015م تجربة الأرجنتين والمغرب وماليزيا، حيث تمكنت الأرجنتين من الصمود ومخالفة كل التوقعات التي راهنت على هبوط العملة المحلية البيزو من 9.8 إلى 14.5 أو 15 مقابل الدولار بينما الانخفاض الفعلي لم يتجاوز 27% في الأشهر الأولى ثم ارتفعت قيمة العملة المحلية تدريجياً، كذلك المغرب نجحت في التعويم وساعدها في ذلك تحويلات المغتربين التي تزيد على 10 مليارات دولار سنوياً، وأيضا ماليزيا نجحت بفعل قدرتها التنافسية العالية في الأسواق الخارجية بوصفها أحد النمور الآسيوية».
وتابع: «من التجارب الناجحة أيضاً تجربة مصر ففي 2016م اتجهت للتعويم المدار بدءاً من نوفمبر 2016م وقد انخفضت قيمة عملتها بعد قرار التعويم من 8.8 إلى 18 جنيه مقابل الدولار ولكنها اتبعت سياسة إصلاحية ركزت فيها على الجهاز المصرفي بهدف زيادة تحويلات المغتربين فقامت بزيادة الفائدة على الودائع حوالي 300 نقطة- بنسبة 3%- فأصبحت الفائدة على الودائع بنسبة 14.75% والاقتراض بنسبة 15.75% وبالفعل نجحت السياسة وارتفعت الاحتياطيات خلال سنة من 19.5 مليار دولار إلى 44 مليار ساعدها في ذلك قروض صندوق النقد والودائع الخليجية التي استثمرت في مشاريع البنية التحتية».
وذكر أن نجاح سياسة التعويم في مصر سببه أيضاً عدم المساس بالدعم، حيث أن تنفيذ رفع الدعم لو تم بالتزامن مع التعويم لتسبب في فشله، وأشار إلى أن الفارق الآن بين السعرين الرسمي والموازي في مصر مقابل الدولار لا يتجاوز 0.3% «15.51 الرسمي و15.57 الموازي».
بورصة العملات
واتفق الباحث الاقتصادي حمدي حسن أحمد، مع ما ذكره د. على الله بأن القرار ليس تعويماً أو تحريراً لسعر الصرف بل هو في واقع الأمر تحريك من «55» جنيهاً إلى السعر الذي سيتم تحديده بعد أول يوم عقب القرار من متوسط الأسعار التي تم التداول بها في السوق الموازي ليكون هو ما يسمى بالسعر التأشيري، حيث يتم تحديد السعر بعد ذلك بما يشبه حركة أسعار الأسهم في أسواق المال بالتحرك وفق العرض والطلب بنسبة للحد الأعلى ونسبة للحد الأدنى من سعر الإغلاق لليوم السابق، وتم تحديد نسبة «5%» لحركة السعر خلال اليوم وهذا نفسه ما تم تطبيقه في 18 يناير 2018م وتغلّب عليه السوق الموازي بكل سهولة.
وأكد حمدي أن القرار لا يعني بأي حال من الأحوال ضمان توحيد سعر الصرف الذي يهدف له، ومع بقاء الكثير من العوامل الأخرى كما هي يبقى إحتمال وجود سعر بالسوق الموازي أكبر من السعر التأشيري المعلن هو الأقوى والراجح.
وأوضح أن التعويم أو تحرير سعر الصرف وفق الوضع الاقتصادي الراهن هو أمر واقع ومطلوب ولكن الوضع الاقتصادي يحتم على الحكومة الإلتزام بتوفير سعر صرف مناسب للعملات الأجنبية المطلوبة لإستيراد السلع والخدمات الأساسية وأهمها المحروقات والدواء والقمح وبعض مدخلات الإنتاج وبذلك تضمن الحكومة قوة قرار التعويم الكامل والمطلق الذي يتجه فيه سعر الصرف للتحسن المطلوب في إنخفاض أسعار العملات الأجنبية، أما وفق حيثيات القرار الحالي يكون إحتمال استمرار الصعود هو الأقوى.
مقاومة تجار العملة
القرار بحسب تجار بالسوق الموازي، لن يقضي على السوق السوداء بهذه السرعة، كما يتخيل البعض، فهم تعاملوا بسرعة مع القرار وبمجرد أن حرك البنك المركزي السعر من «55» جنيهاً إلى «375» جنيهاً سارع التجار برفع الدولار بالسوق الأسود إلى «400» جنيه ومن ثم إلى «420» جنيهاً لكسب مزيد من المتعاملين حتى لا يلجأ المواطنون للقنوات الرسمية البنوك والصرافات.
وقال التاجر «أ» إنهم حالياً لا يعرفون ما سيحدث بالضبط خلال الساعات المقبلة لكنهم مستمرون في العمل.
وأضاف بأن التجار سارعوا لـ«القروبات» الخاصة بهم فور سماع قرار بنك السودان وقرروا مجاراة الأسعار التي تعلنها المصارف برفع أسعار السوق.
وحول إمكانية تقليل هامش الربح للتجار، أوضح التاجر أن القضية مرتبطة بوجود احتياطي من النقد الأجنبي لدى بنك السودان والمصارف.
وتحدى البنك المركزي إذا كان يمتلك في خزائنه دولار يمكن أن يؤثر في السوق حالياً.
وقال: «نحن أيضا نقدم خدمة للمرضى والتجار وحتى الحكومة نفسها تشتري منا».
وأضاف: «يمكن أن نفقد تعامل بعض الجهات الحكومية التي ربما ستتجه للتعامل مع البنوك والمصارف ولكن في النهاية لا يمكن أن نقول القرار يمثل نهاية لتجار السوق الموازي»